المقهى في اليمن.. من النبذ إلى عنوان التمدن الصريح
يمن بوست/ تقارير
حينما اختلف الشيخ القبلي البارز والمحافظ القوي مع أنشط الكوادر وأكثرها وعياً وتأثيراً داخل الحزب، الذي ينتميان إليه، لم يجد غير وصفه بأنه “بعثياً ولد مقهى”، في حين وصف الشيخ نفسه بأنه “بعثياً ابن ناس”!
وقال لي أحد الأصدقاء بأن والده القاضي والحاكم الشرعي، الذي كان يوصف بالمستنير في الصف الجمهوري جنَّ جنونه حين رأى ولده جالساً في مقهى، واعتبر ذلك تجاوزاً أخلاقياً مريعاً، توجب عليه العقاب والحبس والتقييد في المنزل لأسابيع، قبل تدخل عائلي قوي لإطلاقه.
يذكر أحد طلاب بعثة الأربعين الشهيرة، التي أرسلها الإمام يحيى إلى لبنان للدراسة في العام 1947من القرن الماضي ـ في فعل أحدث انقساماً في بيت الحكم ـ أن أغلب طلاب البعثة رفضوا تناول الطعام في مطعم، سموه مقهاية، خارج سكنهم باعتبار ذلك عيباً.
وكانت الحانات والنزل الشعبية المنتشرة في طرق المسافرين، بين المدن والقري المعزولة بين الجبال، توسم بأرذل الأوصاف، باعتبارها مقاه يشرف على إدارتها رجال ونساء ينتمون إلى الطبقة المنبوذة، وصار الوعي الشعبي يختلق قصصه بمخيالات كبتية عجيبة عما يدور فيها، ووجدت تالياً طريقها بالاستلهام إلى قصَّاصين رواد أعادوا ترسيم شخصيات المقهويات من المواقع الكبتية ذاتها، وإن تخففتِ من الازدراء.
كان يقول لي والدي، الذي عمل لسنوات طويلة في مخبازة بالقرب من المباني القديمة لجامعة صنعاء في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إن الكثيرين من سكان المدينة المحافظين كانوا يطلقون على الجامعة اسم “سمسرة وردة”، كنوع من الازدراء للتعليم المختلط، بتشبيه هذه المؤسسة الحديثة بأشهر خانات ومقاهي صنعاء المنبوذة في هذا الوعي.
وبمناسبة ذكر “سمسرة وردة”، والتي لا تزال قائمة في أطراف سوق الجنابي في قلب مدينة صنعاء القديمة، أتذكر أنها كانت تزيِّن مدخلها بلافتة بنر بمسمى “مقهى أبو هاشم”، لكن منذ استولى الحوثيون على السلطة اختفت تلك اللافتة وأعاد ملاكها تجديد لافتتها القديمة بذات مسماها التاريخي (“سمسرة وردة”)، فـ “أبو هاشم” لا يمكن أن يكون مقهوياً بأي حال من الأحوال!
حين التف الأف الشبان القادمون من عدن و تعز وإب والحديدة حول ثورة سبتمبر 1962 وصاروا محركاً لقاطرة التحول فيها، لم يجد مناهضوها سوى نعتها بثورة أبناء المقاهي، وحين أطلت برأسها ذات القوى مع حالة الحرب القائمة، بدأت بتسويق مصطلح تصحيح مسار المجتمع وإعادته لجادة الحق، بتخليص السلطة التاريخية من تغول أبناء الشوارع والأسوق.
على مدى أجيال وحقب تاريخية طويلة ظل الوعي العنصري والشعبوي ينظر إلى المهن التي يمارسها أبناء المجتمع أساساً للتموضع الاجتماعي وتراتبيات الطبقات في المجتمع. فصار يُنظر للسيد داخل شجرة النسب الجافة في أعلى السُلّم الصاعد إلى السماء، متبوعا بالبيوتات التي تمتهن القضاء والفقه ثم مشايخ القبائل، الذين يسبقون التجار بدرجة واحدة، ومن تموضع الأخيرين هذا سيبدأ الانحدار إلى الأسفل بالفلاحين وبعدهم الحدادين ثم المزاينة (حلاقون وقارعوا طبول ودواشن) ويتبعهم نزولاً الجزارون وفي الأسفل تماماً أصحاب مهنة زراعة الخُضر الورقية في البساتين التي تستقي من مخرجات الجوامع في المدينة المكتظة كصنعاء ويسموا بالقشامين.
هذا النبذ والاحتقار للمهن أنتجه في الأصل الوعي البدوي القبلي الاستعلائي العنصري الفارغ، الذي يقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، ووجود القسم الثاني وبكثرته تبعاً لهذا الوعي ليس إلا خدمة لقلة القسم الأول، الذي لا يأكل من كده وشقائه، ويأكل من كد من ينبذه ويحتقره. ومع الزمن تكرَّست هذه النظرة وتصلبت في وعي المجتمع بشرائحه وطبقاته المضطهدة على مر الوقت.
وحتى تتبدل نظرة المجتمع المغلق والجاهل حيال المقاهي والمطاعم كان لأبد من إحداث اختراق صريح في جدار الوعي الصلب بواسطة إعادة تمثيل المدنية في الوعي الجديد، بوصفها حالة للتعايش خارج ضغوط أوهام الصفاء القبلي والبدوي والعنصري، التي تتحوصل وتتحصن داخل الوحدة النقية المغلقة، ولم يكن حينها غير مدينة عدن الحديثة، مؤهلة لقطر الوعي المديني، وبالفعل استطاعت، فكفكة ما تصلب وتخلف في وعي القادمين إليها من الجبال العارية والأرياف الفقيرة والقرى الكبيرة المسورة والمعزولة وكانت تسمى تيمنا بالمدن.
مقاهي عدن .. كيف عصف الوعي الجديد بالمنبوذ
قلة قليلة من كبار السن الذين يعرفون عدن القديمة يتذكرون “مقهاية سويد” في قلب كريتر، وهي أقدم المقاهي، وكانت تؤدي أيضاً نفس وظائف الخان، إذ كانت تقدم للجمَّالة القادمين إلى عدن عبر البُغدة ـ نفق منحوت في جبل المنصورى المطل شمالاً على المجراد القديم “خور مكسر”، وصولاً إلى قلب “كريتر”ـ كل مستلزمات الراحة والمبيت لهم ولجمالهم، وكانت أقرب لمقاهي ونُزل طرق المسافرين وتقدم في الغالب القهوة بالطريقة التقليدية.
ومع دخول السيارات المحدود جداً عبر باب عدن، الذي يربط المعلا بكريتر عبر العقبة، بدأت تتمظهر حياة جديدة ترافقت بالنشاط التجاري وتوسعه بعيد الحرب الكونية الثانية، فبدأت تظهر مقاهي جديدة بوظائف مختلفة، وأكثرها شهرة كانت مقهاية “فارع” في شارع مسجد العسقلاني في كريتر، وأشتهر عن صاحب المقهى أنه كان يمتلك مزرعة أبقار في منطقة القطيع، فكانت المقهاية تقدم الشاهي الملبن والحليب والملاي.
ويقول الراحل فضل النقيب عن “مقهاية فارع”: “كانت قبلة متذوقي الشاي الرفيع يأتون من أقاصي المدينة فلا يكاد كرسي يفرغ حتى يمتلئ في الحال على امتداد ساعات العمل الطويلة، وقد طوَّر الحاج صناعته بإنشاء مزرعة للأبقار وفرت الألبان الطازجة والقشدة الملاي التي كان البعض يفضلها مع الشاي أو يشتريها مفردة، وفي مقهى فارع على الأغلب جرت عمليات فرز مذاقات الشاي وفق درجات معايرته بالحليب”.
وبعيد الاستقلال انتقل هذا المقهى إلى الحديدة، وكان موقعه في الشارع الأشهر في المدينة “شارع صنعاء” المكان المهم للتجمعات الثقافية والسياسية في المدينة الساحلية، التي بدأت تثب إلى الحياة العصرية، حين صارت المرفأ والميناء التجاري الأهم لشمال اليمن.
وفي ذات فترة وجود “مقهاية فارع” في عدن، كانت هناك مقهاية لا تقل شهرة عنها وهي “مقهاية كُشر”، التي لا تزال قائمة في مكانها في الشارع الموازي للأسواق العتيقة في كريتر ويتصل غرباً بالميدان. وكان يمثل هذا المقهى حالة التمدن الجديدة، وقد عرف بأنه مقهى الرياضيين وتحديداً أعضاء ومنتسبي نادي الشباب الرياضي طيلة فترة الستينيات والسبعينيات.
وسيضيف لحالة التمدن الكثير “مقهى زكو”، الذي تأسس في قلب الميدان أواسط الخمسينات، فطغت شهرته على جميع المقاهي، بسبب تمثيلاته للمقهى المصري بوجود فتوات المدينة الذين عرفوا بالتسمية الشعبية بـ “البتنات”، أو “الأبطال” بالتسمية الهندية، القادرين على إغلاق الحواري والأسواق إن نشبت عراكاتهم المتخففة من العنف، والتي تعرف بـ “المدارجة” التي تشبه كثيراً ألعاب الجودو المعاصر. وكانت تزدان جدرانه بصور نجوم الفن ونجماته في السينما المصرية والهندية والغربية.
وفي حافة حسين، وهي أحد أشهر حواري عدن العتيقة، تأسس “مقهى عبدان” في الشارع المؤدي لمنطقة الطويلة، حيث كان ملتقى مهم لنخب الحافة ذات الخصوصية الثقافية والمهنية، وغير بعيد عنه جنوباً تأسس “مقهى أمين عثمان”، الذي أخذ شهرته من كون زوجة صاحب المقهى استطاعت إسقاطه من قوائم التأميم أوائل السبعينيات، ومن ثم قيامها بإدارته كأول امرأة تقوم بذلك بعد مرض زوجها وقعاده.
وغير هذه المقاهي يبرز، أيضاً، في “كريتر” “مقهى سكران” كأحد أبرز عناوين المقاهي في المدينة القديمة، ويقع في شارع الشيخ عبدالله بالقرب من مركز كريتر, وهو واحدة من أقدم المقاهي في عدن، إذ تأسس، حسب بعض الروايات، عام 1910، قبل أن يستقر في مكانه القائم، أواسط السبعينيات، تنقل بين ثلاثة مواقع. وغير بعيد عن “مقهى السكران”، وتحديداً في “شارع السبيل”، كان هناك مقهى معروف وهو “مقهى سيلان”، ولا يقل شهرة عن المقاهي الأخرى.
في منطقة المعلا هناك الكثير من المقاهي، غير أن “مقهى الصومال” هو أكثرها شهرة، ويقع في الشارع الموازي للشارع الرئيس (“مدرم”) من جهة الجنوب، وبالقرب من مسجد الصومال، ويأتي إليه زبائنه من أنحاء المدينة، وأشتهر بالعراكات الدائمة التي تنشب في محيطه . ولم يبرز في منطقة التواهي أو “ستيمر بوينت” غير مقهى واحد هو “مقهى الدبعي” بالقرب من سوقها غير أن هذا المقهى اندثر من سنوات طوال.
في مدينة الشيخ عثمان لم يزل صامداً ومنذ عقود “مقهى الشجرة”، الذي يعد أحد العناوين البارزة للمدينة، وأخذ تسميته من وجود شجرة حراجية في قلبه يستظل بها رواده، الذين كانوا نجوم الأدب والفن والرياضة، ويقطنون الأحياء القريبة منه، وكانت الجلسات فيه تتحول إلى منتديات مصغرة لمناقشة قضايا ذات الاتصال باهتماماتهم. وفي “الشيخ”، أيضاً، اشتهرت في الخمسينيات والستينيات مقاهي ـ خرى مثل “الجريك” و”القميري” وكانتا أقرب بوظائفهما إلى مقاهي كريتر.
تعز الجديدة جلست على طاولات مقهى الإبي
في الذاكرة الثقافية والسياسية ليس في تعز ما هو أشهر من “مقهى الإبي”، الذي تأسس في العام 1955 أسفل المدرسة “الأحمدية” بالقرب من باب المدينة الكبير، وعرف الشارع منذ 1962 بشارع 26 سبتمبر، وصارت المدرسة تعرف بـ “الثورة”.
شهرة المقهى أن صاحبه عبدالله الإبي لعب أدواراً أساسية في التخفيف عن طلاب المدرسة الذين حاصرهم عساكر الإمام داخل مدرستهم، بعد خروجهم بمظاهرات تشيد بالزعيم عبد الناصر في خريف 1961، حين كان حلقة بينهم وبين أسرهم وأحرار المدينة. لم تكن البوفية لطلاب المدرسة الأحمدية مجرد مكان للاستراحة من الحصص الدراسية أو الحلقات العلمية وتناول المشروبات والمأكولات فقط، بل كانت الراديو هو العامل الأكثر جذباً للطلاب.. إذا لم يكن المكان مجرد بوفية أو مقهى فقط بل كان أشبه بنافذة يطل من خلالها الطلاب على العالم، كما يقول مالكه.
وبعد سبتمبر 1962، صار المقهى عنواناً لنخب المدينة من أدباء ومثقفين وسياسيين حزبيين، إذ كانوا يجلسون بالساعات على كراسيه البدائية يناقشون أحوال البلاد وهي تثب نحو الضوء بعد قرون من العزلة والظلام، ولم تكن هذه النقاشات تخلو من الحدة والاختلاف.
وإلى جانب “مقهى الإبي” ـ الذي لم يزل قائماً في مكانه منذ تأسيسه ـ ظهرت في تعز مجموعة أخرى من المقاهي، التي وجدت إليها أقدام المثقفين والمتحزبين في الستينيات والسبعينيات مسالك غير صعبة مثل “مقهى الشباب” جوار سينما قصر سبأ بالقرب من باب الكبير، و”مقهى النجم” بالقرب من السوق المركزي و”مقهى النقب” في “المُصَلَّى”، و”مقهى نبيل الوقاد” في شارع 26، حيث صار كل مقهى منها خاص باتجاه سياسي معين، غير أن هذه المقاهي اندثرت تقريباً.
لكن لم يزل في قلب المدينة القديمة “مقهى الشُّعْبِي” يقدم لمرتاديه، حتى الآن، الشاهي الأحمر المميز إلى جانب البن بالحليب، وله زبائنه الدائمين الذين يبدأون بالتوافد عليه من بعد الفجر وساعات النهار الأولى، وعلى طاولاته الحديدية في محيط الخان القديم “سمسرة الحبوب” يديرون نقاشاتهم المتنوعة في الرياضة والسياسة والموضوعات القريبة منها.
في سفح جبل صبر الأخضر، حيث نشأت منطقة الجحملية بخصوصية ثقافية تقترب من مدن الشمال بسبب انتماء أغلب سكانها لتلك المناطق يبرز اسم “مقهى غالب مخسو”، الذي افتتحه صاحبه في أواسط الستينيات وجعله أقرب إلى مقاهي صنعاء القديمة بتحضيره للبن المحلَّب والشاهي المفوَّر بذات الطريقة التي يستخدم بها بالدافور السويدي أو مواقد الجمر. وظل هذا المقهى و لسنوات طويلة يجذب الكثير من سكان المنطقة الذين يجدون في جنباته تمثيلاً لخصوصياتهم الثقافية، قبل أن تفعل الحرب به، وبالمنطقة أفعالها المدمرة، وتجبر ملاكه على إغلاقه لفترة طويلة.
يجد الآن مثقفو المدينة المحاصرة في بعض المقاهي المنتشرة في المركزي والتحرير الأعلى وجولة المسبح أمكنة يلذون بها لتمضية أجزاء من أوقاتهم في النقاشات وتبادل المعلومات ولقاء الأصدقاء.
صنعاء الجديدة.. الكافيهات ليست بروائح الحوائج
ظل لسنوات طوال “مقهى ميدان التحرير”، أو “مقهى الدالي”، عنواناً صريحاً لصنعاء الجديدة التي نشأت خارج أسوار صنعاء القديمة مع سنوات الجمهورية الأولى، وإلى قبل إزالته أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بسبب إعادة تأهيل المنتزه وتشجيرها، كان بمثابة أهم ملتقى لنخب المدينة الثقافية والسياسية والعسكرية وشهد حوادث اغتيالات لرموز عسكرية ومنها اقتيد للمعتقلات عشرات السياسيين، ومر فيه أهم ظرفاء اليمن.
وبعد إزالته تحوَّل الرواد إلى مقاهي شارع المطاعم الكائن خلف مباني الاتصالات في ذات الميدان، ومع مرور الوقت تأسس هناك مقهى الشاهي العدني الذي صار في العشرية الأخيرة يعرف بـ “مقهى مدهش عبادل” حيث يجد بعض المثقفين فيه وفي محيطه من المطاعم الشعبية متنفساً صغيراً لإدارة جلساتهم بحذر.
في صنعاء انتشرت حول جامعتها القديمة في حي القاع خلال السبعينيات والثمانينيات مجموعة من المقاهي التي كان يلوذ بها طلبة الجامعة والمثقفون ومنها “مقهى الحمادي” و”مقهى الشيباني”، ومع إغلاق بوابة الجامعة الجنوبية من جهة الجنوب وتحول كثير من كليات الجامعة إلى المباني الجديدة اندثرت هذه المقاهي تقريباً، والبقية منها صارت مقاهي هامشية يرتادها العمال والعابرون.
يجد الكثير من المثقفين الآن بعض المقاهي التقليدية التي يلوذون بها دون أن يضايقون من مُلاكها، الذين تطبعوا مع الوقت بطباع مرتاديها من الصحافيين والكتاب والنقابيين، وصاروا عنوانا لهذه المقاهي، على نحو “مقهى الدملؤة” بجولة كنتاكي، و”مقهى عبد الجبار ـ أبو رفعي” في الدائري الغربي ومقهى” الأعجم” في شارع هائل، ومقاهي الشيباني في حدة والتحرير والصافية.
حتى بعض المقاهي الأثيوبية في شارع حدة كانت تشكِّل إلى مطلع الحرب واجهة مهمة للمثقفين، الذين وجدوا في المكان متنفساً مختلفاً، ليس فقط في القهوة المحضَّرة بالطريقة الحبشية وإنما في نوعية مرتاديها من المولدين والمولدات الأكثر مدنية وتسامح. ويحضر هنا اسم “مقهى شبلّي”، أو ما كان يعرف باسم مالكته ومُسيِّرته “حنا”.
في صنعاء القديمة لم تزل المقاهي التقليدية مثل “مقهى باب اليمن” و”سمسرة وردة” و”مقهى الحاج النبوص” في “الأبهر” تقدم لمرتاديها الشاهي المفوَّر وبن الحليب وقهوة القشر.
في صنعاء الجديدة الآن تنتشر عشرات الكافيهات الحديثة، ويرتادها الشبان وبعض المثقفين الميسورين، وتقدم خدمات الإنترنت وأنواع القهوة العالمية والمشروبات الجديدة، في أجواء هادئة، لكنها تظل عُلب باردة، ليس فيها من روح الشارع البسيط وضجيجه شيئاً، والروائح المعطَّرة التي تجوس في أجوائها لا تساوي شيئاً أمام روائح أوراق الشاهي المغلية والجوز والهال المطحون التي تنبعث من برادات طباخة الشاهي التقليدية.
مقاهي المكلا أو بيت الحضارم الكبير
في زياراتي المتعددة إلى مدن حضرموت لاحظت أن مدينة مثل المكلا مكتظة بالمقاهي في أحيائها القديمة وأطرافها، وأن مرتادي هذه المقاهي خليط من الأعمار والألوان، يكسبونها روحاً خاصة. وغير قرقعات أحجار الدمينو على الطاولات الخشبية البدائية قد لا تسمع ضجيجاً للرواد مثل بقية المقاهي في المدن الأخرى، فالسلوك الحضرمي المتزن والهدوء يفرض نفسه على المكان المزدحم.
قال لي صديقي الشاعر والكاتب كمال البطاطي إن المقهى الشعبي الحضرمي هو بيت الحضارم الأول الذي يقضون فيه أجمل لحظاتهم لخلو الحياة من الرفاهية والمرح خارجه.
ويرى في “مقهى الحضرمي”، الذي عمره يتجاوز الستين عاماً ومازال يؤدي دوره حتى الآن، عنواناً مميزاً للحالة، وهو من أكثر المقاهي رواداً وسط المكلا القديمة يمتاز بالشاي الحليب أو الشاهي اللبن بلهجة الحضارم وقهوة البن سادة وسكر وبالحليب.
أما “مقهى سالمين خييرة”، في “حي السلام”، حسب كمال أيضاً، تاريخه أكثر من مآئة عام مضت يرتاده عشاق الرياضة والسياسية وغيرهم، ويتميز أنه بخلاف المقاهي الأخرى؛ إذ به دور ثان يحتوي على الكراسي والطاولات للعب الكيرم والدمنه والورقة وهناك تجرى التصفيات بين اللاعبين ويتجمع حولهم المشجعين والمشاهدين.
وفي المكلا أيضاً، “مقهى بن عروة”، و”مقهى بن شهاب”، وسط “ميدان الدلة”، و”مقهى سالم فرج”، جوار باب الميناء القديم، وقد انقرضت بعضها بحكم تغيرات الزمن وهناك العديد من المقاهي تلتف حولها بعض الجاليات وخاصة الصومالية.
يوجد بحي السلام “مقهى عوض اليهري”، و”مقهى السيئوني”، ومقاهي في “شرج باسالم” و”ديس المكلا”، وغيرها من الأحياء الجديدة. تتنوع المقاهي بالساحل والوادي لكنها تلتقي كونها المتنفس الأكثر شعبية وحضور لأهالي حضرموت عامة.
وبطلب مني عدَّد الصديق الصحافي والكاتب علي سالم اليزيدي مقاهي المكلا الشهيرة، حسب أقدميتها في الزمن وشهرتها على نحو:
“مقهى باسماعيل”، بجانب بوابة قبة يعقوب، وسط المكلا، تأسس أوائل الأربعينات، وظل يقدم الشاي إلى وقت توسعة الطريق إلى “خلف” المكلا، فتحول إلى “سكة يعقوب” قرب ميناء المكلا، ويرتاده السكان والعمال والمثقفون.
“مقهى بن شهاب”، تحت عمارة المحاضير، أو بيت الوزارة للدولة القعيطية الحضرمية، وهو قديم ويقصده المارة والسكان والزوار من السفن القادمة، وله بعض المرتادين للعلب الكوتشينة والدمنة.
ومن المقاهي الشهيرة “مقهى الجيب”، الذي يقع آخر “سكة يعقوب”، حيث كثافة السكان والعمال، ويواجه بوابة الميناء، ويقصده أصناف من أهل البلد والزوار من بلدان الجوار بالسفن، وبه يجلس مساء مثقفو المدينة وفنانوها.
وهناك “مقهى باشميلة”، في “بيت باشنفر”، جوار مسجد السلطان عمر، وهو يمتلئ بالناس من أول النهار إلى العاشرة ليلاً بحكم وجود كثافة سكان وحركة، ووجود السيارات للشحر وخارج المكلا وفرزة سيارات النقل ووكلاء هذه السيارات فترة الستينيات قبل أن تتوسع المكلا وينقل مواقف السيارات إلى خارجها.
“مقهى بازهير”، تحت مسجد السلطان عمر، وهو من أكبر المقاهي، ويفتح طول النهار ويلتقي السائقون والعمال والصيادون، وفي المساء يجلس المثقفون والحكواتية والشعراء وأهل البلد ويسمرون ويلعبون الورق والدمنة.
مقهى “بارشيد” في منطقة “الشرج”، وكان ملتقى لأهل الباديه مثله مثل مقهى “عرفان” الذي كان مشهوراً يقصده البدو من حول المكلا وأريافها.
وهناك مقهى شهير اسمه “مضييس” لصاحبه بامطرف الملقب “مضييس”، وبه تسجيلات الأغاني الهندية فقط، وكل جديد من أغاني الأفلام الهندية التي كانت تعرضها سينما المكلا وقنها كانت تُسمع في هذا المقهى, وكان ملتقى لهواة الفن الهندي ويقع جوار سكة المكلا.
وهناك مقاهي صغيرة متفرقة في الأحياء وبعض الشوارع الداخلية بها الشاي الأحمر الحضرمي، أو القهوة البن وتستقبل روادها على مقاعد خشب، ويجلس إليها راوِ يحكي في العصرية قصة عنترة بن شداد وأبو زيد المهلهل أو قصص البحر.
معظم مقاهي المكلا شهدت خلال تاريخها الطويل ارتياد الثوار ورجال التنظيمات و المناصرون لهم، حيث يلتقون ويتحدثون ويوزعون المنشورات، ويلتقي بها المدرسون والمثقفون وفئات المجتمع. وكانت توضع فيها الوصايا والرسائل المرسلة من الشحر والغيل وسيئون والعكس. كان المقهى في المكلا متاح لكل الناس وكل الطبقات ومكان لقاء يومي للجميع قبل أن ينحسر دوره مع الوقت.
مقاهي الحديدة… من فارع إلى الزوملة
سمعت كثيراً بـ “مقهى فارع” في الحديدة بوصفه أحد معالم المدينة، منذ افتتحه مالكه الحاج فارع، بعد تركه لعدن بعيد الاستقلال، وكان موقعه في البداية في سوق المطراق قبل أن ينتقل إلى الشارع الأشهر في المدينة “شارع صنعاء” المكان المهم للتجمعات الثقافية والسياسية في المدينة الساحلية التي بدأت تثب إلى الحياة العصرية، حين صارت المرفأ والميناء التجاري الأهم لشمال اليمن.
وحين زرته قبل عقدين لأول مرة لم يكن أكثر من بوفية بسيطة يرتادها العابرون وتقدم خدماتها من الشاهي والسندوتشات والعصائر لمحلات الجوار، واحتفظت فقط بصورة باهتة للافتتها الرئيسة، التي تتزين بصورة بقرة جاموس كإحالة إلى تاريخ المقهى المرتبط بزريبته الأشهر التي كانت قائمة في القطيع بمديمة عدن منذ الخمسينات,
وزرت، وقتها، “مقهى الشباب” في سوق المطراق، الذي كان يقرن بمقهى فارع، ويشكل هو الآخر واجهة لمتذوقي الشاهي من نخب المدينة وطبقتها الوسطى، قبل أن يفقد الكثير من بريقه. وبالقرب منه يتذكر بعض الأصدقاء مقهى آخر جوار المدب في منطقة المطراق، وكان يعرف بمقهى طاهر.
وأنا أعِدُّ هذه المادة استعنت بالصديق الشاعر محمد عبيد، أحد أبناء المدينة، لتزويدي ببعض المعلومات عن المقاهي التاريخية في مدينة الحديدة فكتب إليَّ:
“كان هناك مقهى قديم في الحديدة بباب مشرف اسمه “مقهى عبدالله خالد”، إلى جانب “مقهى التركي”، وكان الأدباء والمثقفون في الستينات يرتادونهما ومن روادهما يوسف الشحاري، والعزي المصوعي، وصالح عباس، وإبراهيم صادق وغيرهم، واستمرا هذان المقهيان إلى التسعينيات وأغلقا نهائياً، وتحولاً – كمواقع – إلى محلات تجارية.
و كان هناك مقهى على الساحل يقابل حارة اليمن، وكان صاحبه حكواتياً لقبه “الزوملة” وعُرف المقهى بمقهى “الزوملة” وكان يجلس على كرسي مرتفع و يحكي للزبائن قصص السِيَر الشعبية لعنترة والزير سالم و أبو زيد الهلالي، و يدفع الزبون ثمن المشروب و حق الاستماع للقصص التي كان يقطعها الزوملة في لحظة الاندماج مع أحداثها من قبل الحضور ليواصل في اليوم التالي من حيث انتهى، وتستمر القصة لعدة أسابيع وكان الناس تُقبل على الاستماع في وقت لم تكن قد افتتحت في المدينة دور السينما. ولم يزل مقهى “محمد عبده الشعبي” في الحوك يقدم خدماته حتى الآن، كامتداد للمقهى الشعبي في المدينة.
استدراك وتوضيح
أردت لهذه المادة في الأصل – ساعة اختمارها كفكرة قابلة للكتابة- أن تكون موضوعاً ذا طابع ثقافي، ولم أدر أنها بتشعباتها وبنائها التقني ستأخذ من التحقيق الصحفي سماته الواضحة؛ لهذا أتمنى من القارئ الحبيب أن يتعاطى معها باعتبارها مادة ثقافية مفتوحة على قراءة متعددة.