التحرر من الخمينية السياسية!

شخصية مثل السيد روح الله الموسوي الخميني، لا يمكن قراءتها بوصفه مجرد مرجع فقهي للمسليمن الشيعة، أو قائداً للثورة في إيران وحسب؛ فمحبوه المقدسون له، وكارهوه المشيطنون إياه، ينظرون له كأحد الزعامات الأكثر تأثيراً، والتي غيرت تأريخ منطقة الشرق الأوسط، والصراعات والحروب العنيفة التي شهدتها. كما أن أفكاره دفعت نحو انزياحات بنيوية في دور علماء الدين، وساهمت في “تثوير الفقه”، والخروج به من مساحة أحكام الصلاة والصيام والعبادات التقليدية، إلى فضاءات “الدولة الدينية” وما يتعالق معها من مسائل شائكة؛ وهي مفاهيم انعكست بشكل مباشر على العلاقات الخارجية لنظام “الجمهورية الإسلامية” الذي تأسس في إيران بعد ثورة 1979، وجعل تلك الصلاتِ ذات طابع متوتر مع دول الجوار العربي، زاد من منسوبهِ رفع الدولة الوليدة لشعار “تصدير الثورة”، وما تبعه من تدخلٍ في الشؤون الداخلية لها.

تأثيراتُ الداخل

أيضا، لا يمكن تجاهل التأثير الفقهي للخميني على القضايا الداخلية في إيران والتي غيرت وجه الدولة الملكية ذات الطابع الليبرالي التحديثي المتأثر بالأفكار الغربية.

حيث سعى أنصار الثورة إلى إقامة الحدود وأسلمة المجتمع وتديين الأحزاب، وصولاً لتطبيق الشريعة وقوانينها على الناس، وتأسيس مجموعات تطوعية من الشباب الثوري حاولت فرضَ توجهاتها بالقوة على الإيرانيين، وتحديداً النساء، ما جعلهن يتعرض لمضايقات عدة واعتداءات، بلغت في أقسى تعابيرها إلقاء “الأسيد” على الفتيات غير المحجبات!

مرشد الثورة آية الله خامنئي

مرشد الثورة آية الله خامنئي

العاطفة الجامحة

لم يكن الإسلاميون أو الشيعة وحدهم من تفاعلوا مع “الثورة الإسلامية” العام 1979، فهنالك الكثير من المثقفين اليساريين العرب وحتى الغربيين، ممن كتبوا حول هذا الحدث؛ وهنا تبرز أسماء مثل: ميشيل فوكو، وحازم صاغية، وأدونيس. لقد كانت لحظة عاطفية جارفة، خصوصاً أن ما أبهج قطاعاً واسعاً ليس انتصار الخميني نفسه، وإنما سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كانوا ينظرون له بوصفه نظاماً أحادياً وغير ديموقراطي!

ولاية الفقيه

السيد الخميني، المرجع الديني، والذي دان له بالتقليد قطاع من المسلمين الشيعة في إيران وخارجها، رغم وجود مرجعيات ذات شعبية واسعة مثل الإمام أبو القاسم الخوئي، الذي يطلقُ لقب “أستاذ الفقهاء”، الخميني استطاع أن يؤسس لمنهجٍ جديد في الحوزة، على النقيض من الرؤية التاريخية لحوزة “النجف” العراقية، ودفع بحوزة “قم” في إيران نحو الاشتباك السياسي بطريقة صيرت رجال الدين منخرطين مباشرة في الأحزاب والعمل النضالي وحمل السلاح في جبهات القتال؛ لقد كان هدماً عنيفاً لصراط كلاسيكي ممتد إلى عصر غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي، 260 هـجرية وحتى العام 1979 ، جرت عليه سيرة المتشرعة وكبار فقهاء الشيعة الإمامية، قبل أن يعمل الخميني على شقِ دربه الخاص به، والذي نظر له في محاضراته إبان إقامته في مدينة النجف العراقية، ثم طبعت تلك الدروس في كتاب “الحكومة الإسلامية” التي قوامها “ولاية الفقيه” المطلقة، وهي الولاية التي تستمد صلاحياتها من “ولاية الإمام المعصوم”، بحسب الرؤية الخمينية، حيث إن الفقيه العادل الشجاع الجامع للشرائط، هو نائب الإمام، وبالتالي له جميع صلاحياته، إلا ما اختص منها بـ”العصمة”.

اختلاف الفقهاء

“ولاية الفقيه” كانت حينها محل جدلٍ كبير، فأكثر فقهاء الجعفرية يؤمنون بـ”الولاية المقيدة” على القصرِ والأيتام وفي أمور “الحسبة” ضمن حدود ضيقة نصت عليها كتب الفتاوى، وحتى من يؤمنون بولاية للفقيه أوسع من ذلك، لم تكن ترتقي لأن تكون بذات الطابع التثويري الذي جاء به الخميني.

البعض اعتبر ذلك ضرباً من الاجتهاد المتجاوز للنص، الذي جرى لأهداف سياسية بهدف إقامة حكم ديني ولضرورات المرحلة؛ ولذا لم يجد نقادُ “ولاية الفقيه المطلقة” الأدلة التي ساقها آية الله الخميني، ناهضة.. وتلك مسألة فقهية بحتة، محلُ نقاشها المفصلِ الحوزات العلمية المختصة، ودروس “البحث الخارج”، التي تعمل على دراسة كل دليل وإثباته أو نفيه، وعلى ذلك يبني كل فقيه اجتهاده الخاص، إلا أن ما يهم هو الآثار الاجتماعية والسياسية لتلك النظرية، وهي آثار يرى البعض أنها أتت بنتيجة “سلبية” وخصوصاً على “الشيعة العرب”، وخلقت رأياً عاماً يرفض أي نقدٍ موجه لها، ما جعلها تبدو وكأنها مسلمةٌ يجمع عليها جميع الشيعة، فيما الواقع غير ذلك.

السيد محمد حسين فضل الله

السيد محمد حسين فضل الله

صراع الأفكار

لقد كان صراعاً حول دور علماء الدين بين رؤية الخميني الخاصة، ورؤية الكلاسيكية الشيعية، والتي وقف كبار فقهائها دون تغيير آرائهم، وأبرزهم آية الله أبو القاسم الخوئي، وآية الله محمد كاظم شريعة مداري والسيد حسن القمي، وسواهم.

هذا لا يعني أن الخميني لم يكن له مريدون، بل كان هنالك جيل من المجتهدين ممن أيدوه في ذلك، منهم: الشيخ مرتضى مطهري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ حسين علي منتظري؛ والسيد محمد حسين فضل الله؛ رغم أن الثلاثَ الشخصيات الأخيرة حدثت لديها تبدلات في رؤيتها الفكرية والسياسية، وبعضها انسحب من المشهد السياسي الحزبي كالمرجع الراحل محمد باقر الصدر الذي ترك “حزب الدعوة”، وآخر كتب نقداً تجاه الرؤية الخمينية لولاية الفقيه، كآية الله منتظري الذي كان خليفة للخميني، قبل أن يتم إبعاده عن المنصب!

شخصية مثل آية الله محمد حسين فضل الله، وبسبب خبرته الاجتماعية والسياسية وانفتاحه الثقافي، طور من نظرته حول “ولاية الفقيه” التي كان بداية من مؤيديها، وعدل في بعض التفاصيل في آخر سنوات حياته، حيث أدرك خطورة أن تكون “السلطة المطلقة” بيد شخص واحد، لأن في ذلك دفعٌ نحو “الاستبداد”، وإكراه الناس على ما لا يطيقون. خصوصاً أن فضل الله كان يدعو إلى “المرجعية الرشيدة”، وكان يؤمن بأن “دولة الإنسان” هي الفضاء العام الذي يمكن لجميع المواطنين العيش فيه، باختلاف مذاهبهم وأديانهم، ولهم حق ممارسة إيماناتهم المختلفة بحرية ودون أي إكراهات.

هنالك من يؤمن بـ”ولاية الفقيه العامة”، مثل السيد محمد الحسيني الشيرازي، إلا أن خلافاته المبكرة مع آية الله الخيمني، جعلته يذهب إلى طرح نظرية “شورى الفقهاء”، وينظرُ لها في أكثر من كتاب، ويجعل الأمر تحت طائل مجلس يضم مجموعة من الفقهاء، تقرُ فيه الأحكام بالشورى، كي لا يكون هنالك تفردٌ في الرأي!

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

الرؤية المعاكسة

ربما من أكثر الرؤى النقدية، التي قدمت بديلاً عن “ولاية الفقيه”، هي نظرية “ولاية الأمة على نفسها”، والتي طرحها العلامة الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو فقيه لبناني ومثقف مرموقٌ، دفعته تجربته النقدانية العميقة، وخبرته السياسية إلى الإيمان أكثر بدور الشعب في تأسيس نظام الحكم، وأن الولاية في أي نظام هي للشعب وليس للفقيه.

امتدادُ الولاية

المرشد الحالي آية الله علي خامنئي، سار على نهج آية الله الخميني في الإيمان بولاية الفقيه العامة وترسيخها، ومعه مجموعة من فقهاء حوزة “قم”، مثل الشيخ ناصر مكارم شيرازي، والشيخ جوادي آملي، وزاد من قوتها التعاظم في دور مؤسسة “الحرس الثوري”، وأيضاً الأذرع والأحزاب الخارجية المؤمنة بها، مثل: حزب الله لبنان، عصائب أهل الحق، حزب الله الحجاز، وسواها من التشكيلات القتالية – العقائدية التي تدين بالسمع والطاعة لـ”الولي الفقيه” بوصفه نائب الإمام المعصوم.

الفهمُ المجرد

هذه الخلفية التاريخية من المهم استيعابها علمياً بشكل هادئ بعيد عن العواطف المؤيدة أو المعارضة، لأن الفهم الموضوعي للأفكار، وخصوصاً تلك التي أثرت في منطقة الخليج العربي بشكل عميق، هذا الفهم مفتاح رئيس لحل المشكلات التي خلفتها، ومعالجة آثارها الاجتماعية والأمنية والسياسية.

شباب من أنصار تيار ولاية الفقيه

شباب من أنصار تيار ولاية الفقيه

انجذاب الشباب

لقد رأى جمهور من الشباب المسلم الشيعي في الخليج والعالم العربي في “ولاية الفقيه” طوق نجاة، وصيغة تحقق لهم ذواتهم الفردية والجماعية، وتشعرهم بالقوة، وإمكانية أن يكون لهم شأن وتأثير، ولذا آمن عدد منهم بها، ومجاميع أقل ذهبت وانخرطت في تشكيلات أحزاب الله في الخليج، وبالأخص في السعودية والكويت، وطال تأثيرها الشباب الحركي في البحرين أيضاً، وبعضهم قام بعمليات إرهابية أضرت بالسلم الأهلي، وآخرون تدربوا في معسكرات “الحرس الثوري” في إيران ولبنان. بل إن تأثير “ولاية الفقيه” لم يقف عند المسلمين الشيعة، حيث تأثر بها أعداؤها من الحركيين السلفيين، وتحديداً “السرورية”، ويمكن مراجعة كتاب د.غازي القصيبي، “حتى لا تكون فتنة”، حيث جمع عدداً من مقولات رجال الدين الصحويين المتأثرة بأفكار “ولاية الفقيه”، فضلاً عن تحالف مجموعات من “الإخوان المسلمين” معها، في أكثر من دولة عربية، وأبرز مثال علاقة حركة “حماس” مع النظام في إيران.

التقرير الذي نشره في 5 يناير الجاري، موقع “العربية.نت”، وحمل عنوان “سعوديون في معسكرات حزب الله“، أشار إلى وجود عدة أسباب أدت إلى التحاق بعض الفتية السعوديين بتنظيم “حزب الله الحجاز”، ولعل أحد أهم تلك الأسباب: السمعُ والطاعة والإيمان الوجداني بنظرية ولاية الفقيه المطلقة، والصورة الانطباعية التي تشكلت في أذهان هؤلاء الشباب لمؤسس الثورة في إيران السيد الخمني وخليفته المرشد علي خامنئي.

نزعُ السحر

تفكيك هذه “الهالة القدسية” هو الطريق الأول لـ”التحرر من الخمينية السياسية”، أي التخلص من أعباء “ولاية الفقيه العامة” والتزاماتها الدينية، وذلك لا يتم عبر مزيد من المديح أو الشتائم، ولا المعالجات السطحية أو المقاربات الاحتفائية، وإنما من خلال قراءة تفكيكية، تعمل على “نزع السحر” بحسب تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع ماكس فيبر، وتبيان مكامن “التفجير” العميقة داخل النظرية ذاتها، وعدم قدرتها على مواكبة قيم الحداثة والمدنية والليبرالية، بل دفعها نحو مزيد من الراديكالية وترسيخ سلطة رجال الدين التي تجاوزها الزمن.

من خلال هذه المعالجات الدقيقة والجادة، التي تفصل بين الديني والسياسي، وتقرأ الأحداث ضمن سياقاتها التاريخية، وتطوراتها الاجتماعية، وما أنتجته من خطابات تراكمت واستحالت كـ”الثابت” الذي لا يجوز تغييره؛ من خلال ذلك يمكن خلق وعي جديد مستقل، وإلا سيبقى المزيد من الشباب منشدون إلى هذه الأفكار، غير قادرين على تجاوزها، وإن لم يقعوا فيها أو يعملوا بها بالضرورة في الوقت الحالي، لكنها ستبقى أفكاراً صالحة في نظرهم، وقابلة للتطبيق في أي وقت، غير منتبهين لـ”القنابل الموقوتة” المختبئة في داخلها، والتي من الممكن أن تنفجر في أي مكان وأي زمان، مسببة الكثير من المشكلات في المجتمعات الخليجية، وهنا مكمن خطر أفكار “الإسلام السياسي” ذات الطابع اليقيني الثبوتي، والتي تعتقد أنها هي الجادة المستقيمة، وعليه فأول الخطوات هي المناقدة العلمية، المتحررة من التقديس والطاعة الصماء. فالتاريخ يقول إن ما أنتجته الأحزاب والتيارات الإسلاموية من عنف، كان له وبالٌ عظيم حتى على أتباعها، يوم “أكلت الثورة أبناءها”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *