العملية التعليمية في اليمن على وشك التوقف

يمن بوست/ تقارير 

رصيف 22- علي الضبيبي:

لا تزال المعلمة ابتسام عبد الله تقوم بعملها رغم انقطاع راتبها الحكومي منذ أيلول/ سبتمبر 2016. صباح كل يوم، تذهب من مديرية “شعوب”، حيث يقع بيتها، إلى مدرسة “مجمع الثورة” للبنات في مديرية “آزال” في العاصمة اليمنية صنعاء، لكن صبرها بدأ ينفد، بعد مرور خمسة أعوام بدون مستحقات مالية.

تقول: “لا أستطيع أن أواصل لأنني لا أجد أجرة الحافلة ذهاباً وإياباً”. لكنها مع كل ذلك لا زالت تراعي ضميرها: “ضميري التربوي والأخلاقي هو الذي يجعلني ومثلي مئات المعلمات نقطع كل هذه المسافات وندفع (نقوداً) من جيوبنا”.

في دراسة ميدانية حديثة بعنوان “حرب التجهيل”، نفّذتها “مواطنة”، وهي منظمة يمنية تعنى بحقوق الإنسان، كشفت أن التعليم الحكومي يواجه خطر التوقف بفعل النزاعات التي شهدها اليمن طيلة ست سنوات من العنف والاحتراب.

شملت الدراسة، التي أعدها باحثون متخصصون، عينات واسعة من 137 مدرسة (أساسية وثانوية)، موزعة على تسع محافظات يمنية، وخلصت إلى “أن الطريق إلى المدرسة أصبح غير آمن بسبب استمرار النزاع”.

مخاطر أمنية

تحكي ابتسام، وهي تدرس مادة “العلوم”، كيف أن بعض المعلمات “كن ساكنات في الحي القريب من المدرسة، لكن بسبب عدم قدرتهن على دفع الإيجار، اضطررن إلى نقل سكنهن إلى حي الجراف (شمال العاصمة)، كون كلفة الإيجار هناك أقل، ولكن هذا الانتقال رتّب عليهنّ أعباء جديدة: اجتياز كل هذه المسافة عبر ثلاث مراحل، بكلفة تسعة آلاف ريال (15 دولاراً) شهرياً”.

ورغم أن وضع مدارس البنات في أمانة العاصمة يبدو أفضل حالاً من وضع معظم مدارس البنين الحكومية، إلا أن العملية التعليمية توشك على الانهيار والتوقف التام. فطلاب مدارس الثانوية، يمضون طوال اليوم محتجزين داخل فصولهم الدراسية بانتظار أيّ معلم يأتي. وخلال هذا الوقت المهدور يتشاجر التلاميذ داخل الفصول ويتلاسنون ثم يعودون إلى بيوتهم بطباع وسلوكيات جديدة.

ما هو أكثر فداحة، أظهرته نتائج الدراسة الميدانية لـ “مواطنة”، التي شملت 700 طالب وطالبة، وأظهرت أن “اشتباكات مسلحة مباغته في محافظات أخرى تحصل أثناء الذهاب إلى المدرسة أو العودة منها، إلى جانب مضايقات الغرباء المسلحين، خاصة اللفظية منها، للطالبات ومحاولات اختطاف”.

وبيّنت الدراسة أيضاً، أن أكثر من 24% من التلاميذ اليمنيين المشمولين تعرضوا فعلاً “لمخاطر أمنية أثناء ذهابهم إلى المدارس”، مؤكدة أن هذه النتيجة “تُعَدّ مؤشراً خطيراً على أن الذهاب إلى المدرسة غير آمن”، ومشيرةً إلى أن هذه النسبة أيضاً من المحتمل أن تكون أكبر لو أن الدراسة أُجريت في السنوات الأولى لنشوب النزاع في البلاد.

وأجريت الدراسة في الفترة من شباط/ فبراير إلى نيسان/ أبريل 2020، وكانت وتيرة النزاع قد انخفضت وتراجعت على نحو ملحوظ، ومن ذلك الهجمات الجوية على المدارس، مقارنة بما كان عليه الحال في السنوات الأولى من عمر النزاع.

معاناة المعلّمين

المعلمون أيضاً، قاسوا خلال السنوات الأخيرة صنوف المعاناة، مع توقف رواتبهم، وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ولذا ظل حضورهم إلى المدرسة شكلاً من أشكال المخاطرة.

ففي العاصمة صنعاء، انصرف الكثيرون من المعلمين للعمل في مدارس أهلية (خاصة)، برواتب زهيدة جداً يصل بعضها إلى 30 ألف ريال (50 دولاراً). بل أن بعضهم التحق بمدرسة خاصة من أجل أن يتمكن من إلحاق ولده بهذه المدرسة، على أن تخصم نصف مستحقاته كرسوم دراسية للولد، كما هي حالة الأستاذة رينا، وهي معلمة أحياء في مديرية شعوب، في أمانة العاصمة.

وانقطعت رواتب الموظفين الحكوميين في اليمن، في سبتمبر/ أيلول 2016، وساءت إثر ذلك الأوضاع الاقتصادية لشريحة كبيرة من السكان، والذين كانوا يعتمدون بشكل كلي على هذا العائد، ومن ذلك العاملين في قطاع التعليم، إلى جانب تأثيرات نفسية سلبية لحقت بهم جراء النزاع والفقر، كالشعور بالإحباط، والاكتئاب، وتراجع الثقة بالنفس.

وعكست الدراسة الجديدة الأثر الاجتماعي القاسي على بعض المعلمين نتيجة شعورهم بتراجع المكانة في المحيط الاجتماعي وحتى بين طلابهم، وحدوث مشاكل اجتماعية وعائلية.

وواجه بعض المعلّمين أيضاً تبعات أمنية تمثلت بالملاحقة الأمنية أو الضغط والتهديد على خلفية بعض المواقف والآراء، أو محاولة تطويع ممارساتهم التدريسية بما يخدم مصالح أحد أطراف النزاع.

ويعتقد المعلمون أن التقليل من آثار النزاع على التعليم يعتمد على توفر مجموعة من العوامل، في مقدمتها إيجاد بيئة آمنة لاستمرار التعليم في ظل النزاع، وتقديم الدعم النفسي والمادي للمعلمين، وحصول التلاميذ على الدعم النفسي الملائم، وتوعية جميع شرائح المجتمع بأهمية التعليم، وإعادة تأهيل المدارس المتضررة جزئيّاً وكليّاً.

في أيار/ مايو 2016 وجهت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ضربة قاصمة لقطاع التعليم، عندما أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي قراراً بنقل عمليات البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن التي أعلنها عاصمة مؤقتة.

ورغم التعهدات التي قطعتها الحكومة بدفع رواتب الموظفين الحكوميين، فإن وعودها تبخرت بعد مرور كل هذه السنوات، وبات الوضع التعليمي من أكثر قصص الحرب مأساوية، إذ أدت الممطالة في دفع الرواتب إلى حرمان ملايين الأطفال من التعلم.

ويقدر عدد المعلمين في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) بحوالي 160 ألف معلم، وفقاً لإحصاءات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف)، وجميعهم يعانون من انقطاع شبه كلي لرواتبهم.

الجامعات ليست أفضل حالاً

يسري الوضع نفسه في الجامعات الحكومية اليمنية. يقول الدكتور ناصر سعيد الدحياني، وهو أستاذ مساعد في كلية المجتمع: “ما أقسى أن تكون إنساناً تحمل أعلى الشهادات العلمية وتكون عاجزاً أمام متطلبات أطفالك وأسرتك”.

وأضاف بنبرة أسف وحزن: “تعجز أحياناً عن أن تسعف نفسك أو تشتري عُلبة دواء لمرض الضغط أو السكري وأدوية أمراض تقدم السن… صار الأكاديميون يعيشون غربة وطن، ويتمنون لو لم يضيعوا سنوات عمرهم في رحلة طلب العلم، وشقوا طريقهم في أي عمل خاص يكفل لهم حياة كريمة ولو كان دخله المالي زهيداً”.

وتركت مسألة انقطاع الرواتب عن أعضاء هيئات التدريس في الجامعات الحكومية آثاراً كبيرة على كوادر التدريس الجامعي. ووصل الحد ببعضهم إلى ترك العمل الأكاديمي والبحث عن أعمال بديلة بعضها شاقة ولا تليق بمستواه الأكاديمي، مثل العمل في بيع “القات”، كما هو حال الدكتور ط. س. م.، من جامعة إب.

وعدد الدكتور ناصر الدحياني، وهو رئيس قسم إدارة الجودة الشاملة في كلية المجتمع، سنحان، الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية على أعضاء هيئة التدريس الجامعي، إذ بات الكثيرون منهم يشعرون بالقلق وعدم الإحساس بالأمان والخوف من المستقبل.

وعلى المستوى الاجتماعي، يقول الدكتور ناصر: “تأثرت علاقات هؤلاء الناس بغيرهم من شرائح المجتمع، وأصبحوا يميلون إلى العزلة والانطواء وعدم الاختلاط بالآخرين”.

وتدهورت الأوضاع الاقتصادية لدى شريحة الأكاديميين بشكل لافت. وبسبب هذه الأعباء، إضافة إلى الآثار سالفة الذكر، تأثر الإنتاج العلمي وأخذت العملية التعليمية بالترنح، “فقد تسرب العديد من هؤلاء الأكاديميين إلى أعمال أخرى لا تليق بمكانتهم العلمية”، يقول الدكتور ناصر.

ويتابع: “البعض غادر الوطن لكي يوفر حياة كريمة له ولأسرته، وهجرة العقول هذه تؤثر على التنمية وعلى تقدم الوطن، وتحدث خللاً في النظام التعليمي، إذ ستكون مخرجات الجامعات ذات قدرات متواضعة، وستخرج كفاءات لا تخدم متطلبات سوق العمل ولا تخدم أو تحقق نهضة وطنية”.

وبالنسبة إلى استلام موظفي الجامعات وأعضاء هيئات التدريس رواتبهم من عدن، قال الدكتور ناصر: “كنا نستلم نصف راتب من عدن لفترة استمرت قرابة العام، وكان هذا النصف من الراتب على قلّته وزهده يوفر نوعاً من الراحة النفسية ويخفف الضغوطات التي كان يعاني منها الأكاديميون، ولكن سرعان ما انقطع هذا النصف لأسباب اقتصادية وسياسية وغيرها”.

وكانت جماعة أنصار الله (الحوثيين) قد اتخذت في نهاية عام 2019 قراراً سرى في مناطق سيطرتها وقضى بمنع تداول العملة النقدية الجديدة التي طُبعت بعيد اندلاع الحرب، ما فاقم من اضطراب سوق الصرف وأوقف التحويلات المالية التي كانت تقوم بها الحكومة المعترف بها دولياً إلى آلاف الموظفين الحكوميين في هذه المناطق، وحرمهم من مصدر عيشهم الوحيد.

هذا جزء من مأساة الوضع التعليمي في اليمن في ظل انقطاع الرواتب، خاصة بعد نقل البنك المركزي إلى عدن، والتعقيدات الاقتصادية التي أنتجتها الحرب.

صار البلد منقسماً بين سياستين ماليتين، إذ تدفع الحكومة المعترف بها دولياً رواتب الموظفين الحكوميين في المحافظات التي تخضع لسيطرتها، بينما تبقى الأكثرية من موظفي القطاع العام دون مصدر رزق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *